فصل: فصــل: فيما تقدم من القواعد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

وأما الإحسان، فقوله‏:‏ ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏‏.‏ قد قيل‏:‏ إن الإحسان هو الإخلاص‏.‏

والتحقيق‏:‏أن الإحسان يتناول الإخلاص وغيره،والإحسان يجمع كمال الإخلاص لله، ويجمع الإتيان بالفعل الحسن الذي يحبه الله،قال تعالى‏:‏‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏،فذكر إحسان الدين أولاً،ثم ذكر الإحسان ثانيا،فإحسان الدين هو ـ والله أعلم ـ الإحسان المسؤول عنه في حديث جبريل،فإنه سأله عن الإسلام والإيمان،ففي‏.‏‏.‏‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 فصــل

قد ذكرت فيما تقدم من القواعد‏:‏ أن الإسلام الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين، فيستسلم لله وحده لا شريك له، ويكون سالمًا له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه، كما بينته أفضل الكلام، ورأس الإسلام وهو‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وله ضدان‏:‏ الكبر والشرك؛ ولهذا روي أن نوحًا ـ عليه السلام ـ أمر بنيه بـ لا إله إلا الله، وسبحان الله، ونهاهم عن الكبر والشرك، في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع، فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلمًا له، والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركًا به فلا يكون سالمًا له، بل يكون له فيه شرك‏.‏

ولفظ ‏[‏الإسلام‏]‏ يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص، وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك، كما قال تعالى‏:‏‏{‏يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏،وقال موسى‏:‏‏{‏إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏84‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏، وقال الخليل ـ لما قال له ربه‏:‏ ‏{‏أَسْلَمَ‏}‏ قال ـ‏:‏ ‏{‏أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ‏}‏ ويعقوب أيضًا وصى بها بنيه‏:‏‏{‏يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏131، 132‏]‏،وقال يوسف‏:‏‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِمًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏101‏]‏ ونظائره كثيرة‏.‏

وعلم أن إبراهيم ـ الخليل ـ هو إمام الحنفاء المسلمين بعده، كما جعله أمة وإمامًا، وجاءت الرسل من ذريته بذلك، فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه، مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام العام؛ ولهذا أمرنا أن نقول‏:‏‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏6، 7‏]‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون‏)‏،وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه، فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقل فيهم الشرك، والنصاري يغلب عليهم الشرك ويقل فيهم الكبر‏.‏وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود‏:‏‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ‏}‏وهذا هو أصل الإسلام إلى قوله‏:‏ ‏{‏ٌوَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏83‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وهذا اللفظ ـ الذي هو لفظ الاستفهام ـ هو إنكار لذلك عليهم، وذم لهم عليه، وإنما يذمون على ما فعلوه، فعلم أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى/ أنفسهم استكبروا، فيقتلون فريقًا من الأنبياء، ويكذبون فريقًا، وهذا حال المستكبر الذي لا يقبل ما لا يهواه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الكبر في الحديث الصحيح بأنه‏:‏ ‏(‏بَطَر الحق وغَمْط الناس‏)‏، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر‏)‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول الله،الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا أفمن الكبر ذاك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس‏)‏،وبطر الحق‏:‏ جحده ودفعه، وغمط الناس‏:‏ احتقارهم وازدراؤهم‏.‏

وكذلك ذكر الله الكبر في قوله بعد أن قال‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏145، 146‏]‏‏.‏ وهذا حال الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وهو الغاوي كما قال‏:‏‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏175، 176‏]‏، وهذا مثل علماء السوء، وقد قال لما رجع موسى إليهم‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 154‏]‏، فالذين يرهبون ربهم، خلاف الذين يتبعون أهواءهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏40، 41‏]‏‏.‏

/فأولئك المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله لا يعلمون ولا يفهمون،لما تركوا العمل بما علموه استكبارًا واتباعًا لأهوائهم عوقبوا بأن منعوا الفهم والعلم،فإن العلم حرب للمتعالي،كما أن السيل حرب للمكان العالي،والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه، فأتاهم الله علمًا ورحمة؛إذ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم؛ ولهذا لما وصف الله النصارى‏:‏‏{‏بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا‏}‏ والرهبان‏:‏ من الرهبنة ‏{‏وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏كانوا بذلك أقرب مودة إلى الذين آمنوا، كما قال‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏82‏]‏

فلما كان فيهم رهبة وعدم كبر، كانوا أقرب إلى الهدى، فقال في حق المسلمين منهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏83‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مع محمد وأمته، وهم الأمة الشهداء، فإن النصارى لهم قصد وعبادة، وليس لهم علم وشهادة؛ ولهذا فإن كان اليهود شرًا منهم، بأنهم أكثر كبرًا وأقل رهبة، وأعظم قسوة، فإن النصارى شر منهم فإنهم أعظم ضلالا وأكثر شركًا، وأبعد عن تحريم ما حرم الله ورسوله‏.‏

وقد وصفهم الله بالشرك الذي ابتدعوه، كما وصف اليهود بالكبر الذي هووه، فقال تعالى‏:‏‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏إلى قوله‏:‏ {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ‏}‏الآية ‏[‏المائدة‏:‏116، 117‏]‏ وقد ذكر الله قولهم‏:‏ أن الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، وقولهم‏:‏ اتخذ الله ولدًا، في مواضع من كتابه، بين عظيم فريتهم وشتمهم لله، وقولهم‏:‏ الإد الذي‏:‏‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏90‏]‏، ولهذا يدعوهم في غير موضع إلى ألا يعبدوا إلا إلهًا واحدًا، كقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171، 172‏]‏، وهذا لأن المشركين بمخلوق من البشر أو غيرهم، يصيرون هم مشركون، ويصير الذي أشركوا به من الإنس والجن مستكبرًا، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏6‏]‏، فأخبر الله أن عباده لا يستكبرون عن عبادته وإن أشرك بهم المشركون‏.‏ وكذلك قال تعالى‏:‏‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏الآية‏:‏ ‏[‏المائدة‏:‏73‏:‏ 75‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏72‏]‏ فأخبر أنه أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن أن يشركوا به، أو بغيره كما فعلوه‏.‏

ولما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏‏.‏ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه، فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏46‏]‏‏.‏ كما جاء في الحديث‏:‏‏(‏يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم‏)‏‏.‏وكما في الحديث عن عمر بن الخطاب موقوفًا ومرفوعًا‏:‏ ‏(‏ما من أحد إلا في رأسه حكمة، فإن تواضع قيل له‏:‏ انتعش نعشك الله، وإن رفع رأسه قيل له‏:‏ انتكس نكسك الله‏)‏، وقال سبحانه وتعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏59‏:‏ 61‏]‏‏.‏

ولهذا استوجبوا الغضب والمقت‏.‏والنصارى لما دخلوا في البدع أضلهم عن سبيل الله فضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل،وهم إنما ابتدعوها ليتقربوا بها إليه ويعبدوه،فأبعدتهم عنه وأضلتهم عنه وصاروا يعبدون غيره‏.‏/فتدبر هذا والله ـ تعالى ـ يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين‏.‏

وقد وصف بعض اليهود بالشرك،في قوله‏:‏‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏30‏]‏، وفي قوله‏:‏‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏60‏]‏، ففي اليهود من عبد الأصنام، وعبد البشر، وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركًا، كما ذكر الله عن فرعون وقومه‏:‏ أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين، فقال عن مؤمن آل فرعون‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏41‏:‏ 43‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏34‏]‏‏.‏وقال يوسف الصديق لهم‏:‏‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39، 40‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏127‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏كيف يكون قوم فرعون مشركين‏؟‏ وقد أخبر الله عن فرعون/ أنه جحد الخالق فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏23‏]‏، وقال‏:‏‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏وقال‏:‏‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏،وقال عن قومه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏13، 14‏]‏، والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله، وإلا فالجاحد له لم يشرك به‏.‏

قيل‏:‏ لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى، وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله، وهم مشركون به؛ ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم يتضمن الإقرار بوجود الصانع، كقوله‏:‏ ‏{‏أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏، ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏50‏]‏،‏{‏وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏52، 53‏]‏، وقد قال مؤمن آل حم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏34‏]‏، فهذا يقتضي أن أولئك الذين بعث إليهم يوسف كانوا يقرون بالله‏.‏

ولهذا كان أخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف، ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع، كقولهم‏:‏‏{‏تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏73‏]‏ وقال لهم‏:‏‏{‏أَنتُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏77‏]‏، وقال‏:‏‏{‏مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏79‏]‏ وقالوا له‏:‏/‏{‏يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏88‏]‏، وذلك أن فرعون ـ الذي كان في زمن يوسف ـ أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكرامًا عظيمًا مع علمه بدينهم، واستقراء أحوال الناس يدل على ذلك‏.‏

فإن جحود الصانع لم يكن دينًا غالبًا على أمة من الأمم قط، وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك، وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس، وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين، الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام، والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلها تدل على ذلك، ولكن فرعون موسى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏54‏]‏ وهو الذي قال لهم ـ دون الفراعنة المتقدمين ـ‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏، ثم قال لهم بعد ذلك‏:‏‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24، 25‏]‏ نكال الكلمة الأولى، ونكال الكلمة الأخيرة، وكان فرعون في الباطن عارفًا بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده، ولهذا قال له موسى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ فلما أنكر الصانع، وكانت له آلهة يعبدها بقى على عبادتها ولم يصفه الله ـ تعالى ـ بالشرك، وإنما وصفه بجحود الصانع وعبادة آلهة أخرى‏.‏ والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرًا ما يعبد آلهة، ولا يعبد الله قط، فإنه يقول‏:‏ هذا العالم واجب الوجود بنفسه‏.‏ وبعض أجزائه مؤثر في بعض، ويقول‏:‏ إنما انتفع بعبادة الكوكب والأصنام،ونحو ذلك؛ ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية، المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون‏.‏

/وكنت أبين أنه مذهبهم، وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون، حتى حدثني الثقة عن بعض طواغيتهم أنه قال‏:‏ نحن على قول فرعون؛ ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيمًا كثيرًا‏.‏ فإنهم لم يجعلوا ثَمَّ صانعًا للعالم خلق العالم، ولا أثبتوا ربًا مدبرًا للمخلوقات، وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع؛ ولهذا جوزوا عبادة كل شيء، وقالوا‏:‏ من عبده فقد عبد الله، ولا يتصور عندهم أن يعبد غير الله فما من شيء يعبد إلا وهو الله، وهذه الكائنات عندهم أجزاؤه، أو صفاته، كأجزاء الإنسان أو صفاته، فهؤلاء إذا عبدوا الكائنات فلم يعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، لكن لأنها عندهم هي الله أو مجلى من مجاليه، أو بعض من أبعاضه، أو صفة من صفاته، أو تعين من تعيناته، وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين، لكن فرعون لا يقول‏:‏ هي الله، ولا تقربنا إلى الله، والمشركون يقولون‏:‏ هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله، وهؤلاء يقولون‏:‏ هي الله، كما تقدم، وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه، وهؤلاء أوسع ضلالاً من حيث جوزوا عبادة كل شىء وزعموا أنه هو الله، وأن العابد هو المعبود، وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله‏.‏

وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وصفوا بذلك، وفرعون موسى هو الذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة، ولم يصفه الله بالشرك‏.‏

فمعلوم أن المشركين قد يحبون آلهتهم كما يحبون الله، أو تزيد محبتهم لهم على محبتهم لله؛ ولهذا يشتمون الله إذا شتمت آلهتهم، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏108‏]‏‏.‏ فقوم فرعون قد يكونون أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به، واستجابوا لفرعون في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، و‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏؛ ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال‏:‏ ‏{‏تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏42‏]‏‏.‏ فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده، وذكر الإشراك به أيضًا، فكان كلامه متناولاً للمقالتين والحالين جميعًا‏.‏

فقد تبين أن المستكبر يصير مشركًا، إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله، لكن تسمية هذا شركًا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏35، 36‏]‏‏.‏ فهؤلاء مستكبرون مشركون؛ وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله، فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر ـ كفرعون ـ أعظم كفرًا منهم، وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرًا من هؤلاء، وإن كان عالمًا بوجود الله وعظمته كما أن فرعون كان ـ أيضًا ـ عالمًا بوجود الله‏.‏

وإذا كانت البدع والمعاصي شعبة من الكفر وكانت مشتقة من شعبه، كما أن الطاعات كلها شعبة من شعب الإيمان ومشتقة منه، وقد علم أن الذي يعرف الحق ولا يتبعه غاو يشبه اليهود، وأن الذي يعبد الله من غير علم وشرع وهو ضال يشبه النصارى، كما كان يقول من يقول من السلف‏:‏ من فسد من العلماء/ ففيه شبه من اليهود،ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى‏.‏

فعلى المسلم أن يحذر من هذين الشبهين الفاسدين، من حال قوم فيهم استكبار وقسوة عن العبادة والتأله، وقد أوتى نصيبًا من الكتاب وحظًا من العلم، وقوم فيهم عبادة وتأله بإشراك بالله وضلال عن سبيل الله ووحيه وشرعه، وقد جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، وهذا كثير منتشر في الناس، والشبه تقل تارة وتكثر أخرى، فأما المستكبرون المتألهون لغير الله الذين لا يعبدون الله، وإنما يعبدون غيره للانتفاع به، فهؤلاء يشبهون فرعون‏.‏

/وقال ـ رحمه الله تعالى‏:‏

 فصــل

لفظ ‏[‏الإسلام‏]‏ يستعمل على وحهين‏:‏

متعديا كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏20‏]‏، وقوله في دعاء المنام‏.‏ ‏(‏أسلمت نفسي إليك‏)‏‏.‏

ويستعمل لازمًا كقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏131‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏83‏]‏، وقوله عن بلقيس‏:‏ ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏44‏]‏‏.‏ وهو يجمع معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ الانقياد والاستسلام‏.‏

والثاني‏:‏ إخلاص ذلك وإفراده، كقوله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏، وعنوانه قول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وله معنيان‏:‏

/أحدهما‏:‏ الدين المشترك، وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي بعث به جميع الأنبياء، كما دل على اتحاد دينهم نصوص الكتاب والسنة‏.‏

والثاني‏:‏ ما اختص به محمد من الدين والشرعة والمنهاج ـ وهو الشريعة والطريقة والحقيقة ـ وله مرتبتان‏:‏

أحدهما‏:‏ الظاهر من القول والعمل، وهي المباني الخمس‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون ذلك الظاهر مطابقًا للباطن‏:‏ فبالتفسير الأول جاءت الآيتان في كتاب الله، والحديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعم من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا‏.‏ وبالتفسير الثاني يقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏آمركم بالإيمان بالله‏)‏، وفسره بخصال الإسلام‏.‏ وعلى هذا التفسير فالإيمان التام والدين والإسلام سواء، وهو الذي لم يفهم المعتزلة غيره‏.‏ وقد يراد به معنى ثالث هو كماله وهو قوله‏:‏‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده‏)‏ فيكون أسلم غيره، أي جعله سالمًا منه‏.‏

ولفظ ‏[‏الإيمان‏]‏ قيل‏:‏ أصله التصديق ـ وليس مطابقًا له، بل لابد أن يكون تصديقًا عن غيب، وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانًا؛ لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة، وهذا إنما يكون في المخبر الذي قد يقع فيه ريب، والمشهودات لا ريب فيها إلا على هذا ـ فإما تصديق القلب فقط كما تقول/الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية، وإما القلب واللسان كما تقوله المرجئة، أو باللسان كما تقوله الكَرَّامِيَّة، وأما التصديق بالقلب والقول والعمل ـ فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث، كما فسره شيخ الإسلام وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ بل هو الإقرار؛ لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر، كقوله‏:‏ ‏{‏أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏81‏]‏؛ ولأن قر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار دخول في الإقرار، وعلى هذا فالكلمة إقرار، والعمل بها إقرار أيضًا‏.‏

ثم هو في الكتاب بمعنيين‏:‏ أصل، وفرع واجب، فالأصل الذي في القلب وراء العمل؛ فلهذا يفرق بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏7‏]‏ والذي يجمعهما كما في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، و ‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏44‏]‏‏.‏ وحديث الحياء، ووفد عبد القيس،وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه ومقتصد وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان، والأعمال والصفات، فمن سواء أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل ومنه ما نقص عن الكمال، وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول، الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط، وبهذا تزول شبهات الفرق، وأصله القلب وكماله العمل الظاهر، بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر، وكماله القلب‏.‏

/وقال ـ رحمه الله‏:‏

 فصــل

معلوم أن أصل الإيمان هو‏:‏ الإيمان بالله ورسوله، وهو أصل العلم الإلهي، كما بينته في أول الجزء‏.‏

فأما الإيمان بالله، فهو في الجملة قد أقر به جمهور الخلائق، إلا شواذ الفرق من الفلاسفة الدهرية، والإسماعيلية ونحوهم، أو من نافق فيه، من المظهرين للتمسك بالملل، وإنما يقع اختلاف أهل الملل في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعبادته ونحو ذلك‏.‏

وأما الإيمان بالرسول، فهو المهم؛ إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله ـ سبحانه ـ ولهذا كان ركنا الإسلام‏:‏‏(‏أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏)‏‏.‏ ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق‏.‏والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد ـ تصديق الرسول/ فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له، فالنفاق يقع كثيرًا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته‏.‏ والكفر هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب، أو استكبار أو إباء أو إعراض، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر‏.‏

ثم هنا نفاقان‏:‏ نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة؛ فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه، فألا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر ـ علما وعملاً ـ وأنه يجوز تصديقه وطاعته، لكنه يقول‏:‏ إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدًا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته، إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة، في هذه المسألة وفي غيرها، فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض، بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبًا، بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أوطاعة ملك، وهذا دين التتار ومن دخل معهم‏.‏

أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي/ والعملي غير سالكين هذا المسلك بل يسلكون مسلكًا آخر‏:‏ إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوَجْد، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه، فانظر نفاق هذين الصنفين‏!‏ مع اعترافهم باطنًا وظاهرًا بأن محمدًا أكمل الخلق وأفضل الخلق، وأنه رسول وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدًا، لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا‏.‏

/ سئل ـ رحمه الله‏:‏ عن الإيمان بالله ورسوله‏:‏ هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا‏؟‏ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا‏؟‏ وهل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا‏؟‏ وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب ـ مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم عمل من الأعمال أو غير ذلك‏؟‏

فإن كان لأول حصوله سبب، فما هو ذلك السبب ‏؟‏ وما الأسباب ـ أيضًا ـ التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل، على ترتيبها‏؟‏ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه‏؟‏ أم بالعلم حتى يرسخ فيه‏؟‏ أم بالعبادة حتى يجهد نفسه، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته‏؟‏ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه الله ورسوله‏؟‏ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان، وما وصف صاحبه ـ رضى الله عنكم‏؟‏

/فأجـاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏ اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم‏.‏

ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك‏.‏

ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها‏:‏ قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏)‏‏.‏ فذكر أعلى شعب الإيمان، وهو قول لا إله إلا الله، فإنه لا شيء أفضل منها كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏أفضل الدعاء؛ دعاء يوم /عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‏:‏ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏)‏،وفي الترمذي وغيره أنه قال‏:‏‏(‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت‏:‏ ‏(‏يا عم، قل‏:‏ لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله‏)‏‏.‏

وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه حديث الموجبتين‏:‏ موجبة السعادة وموجبة الشقاوة، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان‏.‏

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس‏:‏‏(‏آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله‏؟‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس المغنم‏)‏، فجعل هذه الأعمال من الإيمان، وقد جعلها من الإسلام في حديث جبرائيل الصحيح ـ لما أتاه في صورة أعرابي ـ وسأله عن الإيمان، فقال‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏، وسأله عن الإسلام فقال‏:‏‏(‏أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله،/ وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت‏)‏،وفي حديث في المسند قال‏:‏ ‏(‏الإسلام علانية، والإيمان في القلب‏)‏‏.‏

فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح، كما قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ‏:‏إن القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده‏.‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏.‏

ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة، وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه، حتى آل الأمر بغلاتهم ـ كجهم وأتباعه ـ إلى أن قالوا‏:‏ يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة، وقالوا‏:‏ حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب‏.‏ وقولهم متناقض، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في/ القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن‏.‏

والله ـ سبحانه ـ في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏62‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

فإذا قال القائل‏:‏ هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان، قيل‏:‏ هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب ـ وذلك تصديق ـ وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه/ ومعاداة أعدائه، ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، ‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 81‏]‏ فهذا التلازم أمر ضروري‏.‏

ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة، مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا‏:‏ هل يعاقب على الإرادة بلا عمل‏؟‏ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها؛ لا عمن أراد وفعل المقدور عليه، وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما، فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها‏.‏

بقى أن يقال‏:‏ فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه‏؟‏ والتحقيق‏:‏ أن الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلا الأصل، إذا لم يخص إلا هو، كاسم الشجرة، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن، وواجب،/ ومستحب، وهو حج ـ أيضًا ـ تام بدون المستحبات، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم‏.‏

والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب، والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء‏:‏ الغسل ينقسم إلى‏:‏ كامل، ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا إيمان لمن لا أمانة له ‏)‏،و ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ ونحو ذلك، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج، والصلاة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان‏)‏‏.‏

وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا، كما في قوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 63‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت‏)‏ ونحو ذلك،فهناك قد يقال‏:‏ إنه متناول لذلك، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى‏:‏‏{‏وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏‏.‏

/وقد يقال‏:‏ إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران، كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين، كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه، هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا‏؟‏ لكونها عطفت عليه‏.‏

ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية، أو بعض أنواعه الرفيعة؛ كاليقين، والعلم، ونحو ذلك، فيشعر العطف بالمغايرة، فيقال‏:‏ هذا أرفع الإيمان ـ أي اليقين والعلم أرفع من المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏‏.‏

ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه، وفي عمومه وخصوصه، وفي بقائه ودوامه، وفي موجبه ونقيضه، وغير ذلك من أموره، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل به على النوع الآخر، ويبقى اسم الإيمان، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر، وكذلك يفعل في نظائر ذلك، كما يقال‏:‏ الإنسان خير من الحيوان، والإنسان خير من الدواب، وإن كان الإنسان يدخل في الدواب، في قوله‏:‏‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فإذا عرف هذا، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان، فإنما هو تفضيل نوع خاص على عمومه، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره،/واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا، وقد يخص أحدهما كما تقدم، وقد قيل‏:‏ أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه‏.‏